tisdag 19 maj 2009

البعد الأخر للمـــــــــــــــوت


البعد الاخر للموت
21/8/2008 20:12
هل الموت نهاية الحياة ونهاية الحب ونهاية الوصل والفرح والحزن والكابة ؟
هل هو نهاية كل شيء؟ هل هو الحد الفاصل بين قيمتين وكيانين الحياة والعدم ؟
الحياة تجسدت وتبلورت والتقطتها الادراك الحسي للبشر منذ ان وجد البشر. انغرست في ذاكرة الموجودات التي نراها ونشعر بها والتي يخال لنا اننا نعرفها وان لم ندرك كل مكوناتها . يخال لنا احيانا اننا نعرف سبب وجودها ...اي الحياة والغاية من هذا الوجود واحيانا كثيرة لاندري الى اية غاية نسير.
اذا الحياة في نظر الراحل الكبير محمود درويش هي الحضور اذا حسبنا تسميته للموت بالغياب . الحضور او الحياة قد تتجلى بصورها المتعددة الجميلة منها التي تبعث في النفس البشرية شعورا بالجمال رائعا في وقعه ومثاليا في صيرورته وتصوره . هذا الشعور يشبه حديقة الحياة المفعمة بالحب والجمال والفرح وزهر اللوز وشقائق النعمان ورائحة القهوة في الصباح وطعم لقمة الخبز المغموسة بزيت الزيتون . فيها القمر الراقص على اغصان الزنزلخت في ليلة قمرية وفيها قطرات الندى على زهرة نرجس برية ترقص على وقع نسيم الصباح الاول الذي وصل اليها على جناح السحر.
في هذه الحياء النقائض لهذا الوجود الجمالي المثالي . فيها القبح والخسة والكرة والحسد وقد تجسدا على هيئة انسان ات ربما من عالم اخر . فيه حدائق شيطانية تنموا بترابها العفن زهور سوداء كسواد الليل وتخفي في طياتها نفوس مريضة حاقدة .. وفيها فحيح الافاعي ولسعات العقارب والبؤس والفقر والعوز وغياب الحريات والاحتلال التي تكور وتصور وغدا نزيل الطرقات وضيف البيوت الانسانية بلا دعوة ولا ترحاب.
اما العدم او مابعد الموت او كما سماه الشاعر " الغياب " فهو حالة غامضة
مجهولة تبدا بعد الموت لا نعرف بدايته الاكيدة ولا نهايته ولا ندري اسراره وكياناته ولا نظم عيشه وحياته ولا ادبه وفنه وشعرة ولا حتى لغته. لقد تسنى للشاعر الكبير الراحل استطرادا نادرا وتاملا فريدا في هذا العدم وهذا " الغياب " وهو بعد في ذاك البرزخ القصير الذي يوصل بين الحياة والموت . راه ودعاه " الابدية البيضاء" وكان مستعدا على خوض غمار هذا المجهول الذي تشيب من ذكره الولدان والبحث عن المعاني والموجودات التي تلفها معها هذه الابدية البيضاء الازلية التي لا يعرف حتى الان احد كنهها والتي لم تسمح لزائريها ابدا بالرجوع منها واستقبلتهم ببطاقة دخول لمرة واحدة و بتذكرة سفر في اتجاه واحد لا رجعة منه .
معضلة الموت والحياة.. الحياة وما بعد الموت .. الموت والخلود.. الطبيعة وما وراء الطبيعة هي بذاتها معضلة الوجود الانساني كله الاساسية ومنذ ان بدء هذا الوجود . " الانا " الموجود هذا سال نفسه دائما عن حالته بعد حالة الموت
هل سيبقى هذا " الانا " ام يزول وكانه فص ملح وذاب ام يتحول الى " انا " اخر في عالم اخر له نظمه ووقعه الخاص .
الانسان الحاضر المنتصب ومنذ ان نزل عن الشجرة ودب على قدميه يسال نفسه عن البداية والنهاية وعن غاية هذا الوجود والى اين خطاه و مالهدف من الولادة والطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة والموت واين المصير ..هكذا دواليك .
ماهي غاية الولادة اذا كانت نهايتها الحتمية الموت ؟ ماغاية الشباب اذا كانت نهايته الشيخوخة والعجز والقبر . نسعى في مناكب الارض نفرح ونحزن ونتامل ونندم ونمرض ونموت ؟
كلها تناقضات وجودية ازلية لم تجد لها لا العلوم ولا الفلسفة بعد حلولا مقنعة وجوابات وافية وبصيرة حتى الان.
تحايل البشر على الموت وحاربوه وصارعوه وحاولوا تخطي سياج بيدره الى تلك " الابدية البيضاء" المرجوة ولم يفلحوا . جلجامش بنى اسطورة الخلود الاولى لكن الموت اقتنصه هو الاخر كما اقتنص رفيق روحه وصديقة انكيدو ولم يخلف للزمن لا الواحا مبعثرة مهشمة عن ملحمته الشهيرة في صراعه من اجل البقاء الابدي . الاغريق القدماء خلقوا الهة اسطورية انسانية الملامح واسكنوها " الاولمب " العالي كعش النسر القريب من اعتاق ازرق لا متناهي .تزاوجوا معها بامل الخلود في ذاك الانعتاق الابدي ولكنهم لم يصلوا الى الحد الفاصل بين الوجود وعدمه بين الحياة و" الابدية البيضاء " .
الاديان التوحيدية الثلاثة اوجدت الاله الواحد جل جلاله الذي اوجد الحياة الصالحة و الطالحة للبشر واقرت ان نهاية الموت هي "دار الحق " فيها جنات خلد تجري من تحتها الانهار ..انهار الحليب والعسل وتجول بها العيون الحور والقدود الحريرية التي تخلق حبا ابديا لا ينتهي . في دار الحق ايضا جهنم ونار ابدية تاكل ولا تشبع من اجساد المارقين على ارادة الله جل جلاله .
فلاسفة المادة اقروا وبرهنوا على خلود المادة وتحولها من صورة الى اخرى الى ما لا نهاية . الشاعر بعد الموت يرجع الى الحياة زهرة لوز والعاشق حصان جامح يصارع الريح والحبيبة سوسنة حمراء والفيلسوف ذبالة شمعة لا تخبوا والكاتب حروفا وكلمات تكتبها الريح في كتاب الحياة والموسيقي سوناتا تعزفها العاصفة والعامل مطرقة حديدية تغرز اوتاد الحياة ولاعب الكرة عشبا اخضرا والام هالة ضوء دافىء والاب عباءة فارسية لاتخترقها عواهن الدهر والجد رائحة الارض والتبغ والقهوة والابن نحلة تقفز من زهرة الى اخرى والبنت طوق ياسمين .. الى ما لانهاية .
الثورة العلمية الحاصلة وخاصة اكتشاف الجينوم البشري اكدت ما فرضته الفلسفة المادية وقانون بقاء المادة وتحولها لكنها الى الان لم تدرك ابعاد هذا التحول وازمانه ولا حالات الانتظار للتحول من حال الى حال .
حدث لي انني سمعت من طبيب صديق في مدينة بعيدة حدثني مرة عن شهادة مريض بعد اجرائه عملية جراحية هناك لتبديل الشرايين التاجية للقلب فاقت الخيال . حصل ان قلب ذاك المريض توقف خلال العملية ودخل عمليا وعلميا بحالة الموت السريري . راى نفسه غائرا بسرداب معتم اسود رهيب في نهايته ضوء غزير شديد البياض شده نحوه باغراء كل العالم وشوقه الى درجة الادمان .عندما وجد نفسه هناك وسط الهالة البيضاء لم يرغب العودة منها وفضل البقاء في سحرها . راى نفسه محلقا فوق رؤوس الاطباء الذين اذهلتهم حيرة توقف القلب خلال الجراحة وعملوا جاهدين على اعادته الى الحياة والى الخفقان ونجحوا واعادوه الى هذه الحياة .
قرات كثيرا عن مثل هذه التجارب الغريبة ولكنها الى الان لم تثبث علميا ولم توثق.
فسر العلماء والاطباء الامر كل مرة على عادتهم وقروا ان سبب تلك الحالات النادرة والغريبة ناتج عن نقص حاد في اوكسجين خلايا الدماغ نتيجة توقف القلب عن الخفقان ومن ثم توقف الدورة الموية وتدفق الدم الذي يحمل للخلايا العصبية الحياة واكسجين الحياة .
هل هذه هي " الابدية البيضاء " الذي كتب عنها هذا الشاعر الكبير وقد عايش الموت السريري مرة واحدة على الاقل . هل هذا هو سبب خلق " الجدارية " الرائعة التي تعد وبحق من اروع ماكتب عن الموت والحياة في تاريخ الادب والشعر العالمي كله في مختلف عصوره.
خاطب هذا الشاعر الفذ الموت بجداريته بشجاعة نادرة ورائعه وبلغة اشد روعة من زهر اللوز قائلا وهو الواثق من قدرته وجهوزيته لصراع الموت والانتقال الى حياة حية بيضاء وابدية
" ايها الموت انتظرني خارج الارض ..انتظرني في بلادك
ريثما انهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي " ..نعم هكذا بلا وجل ولا خوف
خاطب عدوا ليس خائفا منه بل ندا له تغلب عليه وسبقة الى " الابدية البيضاء " التي لن تطاها يد الموت ابدا لانها حقيقة الخلود ذاته لشاعر كبير وشجاع ورقيق مثله وللبشر العظام الذين وصلوا اليها قبله والذين خلفوا اعمالا انسانية او فنية وروائع ادبية وشعرية سامية حلقت بهم بعيدا عبر حدائق الموت ودهاليز الشيطان واصبحوا في مدى ابيض رائع له وقعه وزمنه ولغته وحياتة الخالدة التي لا نستطيع سبر غورها وكشف سرها مع ماتقدمة لنا الحياة اليوم من الامكانيات التقنية الهائلة الحاصلة والمتوفرة.
انا رايت الموت مهزوما فوق تلك الرابية التي تطل على القدس حيث سجي جسد درويش تحت التراب . صدح صوته بشعره الرفيع وكان الكون من حوله هاجع حزين على فراق هذا الشاعر النادر . وقف الناس وكان على رؤوسهم الطير وكان ذاك الصوت ات فعلا من تلك الابدية البيضاء الساحرة التي سحرت درويش نفسه واخذته اليها بشغف عاشق ولهان بعد ان تهيء لها واعد حقيبة السفر في اتجاه واحد ليس منه عودة الى عالم نعرفه ونحياه ولا ندري احيانا كثيرة كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ . شعره الرائع كان سلمه للخلود مكللا بطوق من الياسمين الابيض الناصع البياض وبثوب حيكه لنفسه من زهر اللوز ومن سنابل خضراء وزينه بشقائق النعمان وقصفات الحبق.
على تلك الرابية وخلال دفن الجثمان تحت التراب انتدبت صبية فلسطينية مكانا قصيا مخلفة الاف المشيعين الين تجمعوا حول الجثمان ولم يصدقوا انهم بايديهم يوارونه التراب . تاهت بوجهها الاسمر الجميل وبشعرها الاسود الفاحم نحو الشمس التي وقفت في كبد السماء مائلة الى البياض . ربما بحثت عن طريق الشاعرالكبير الذي خبر الملا قبل الرحيل واثنائه انه ذاهب الى انعتاق ابيض في سفرة بيضاء منمقا مزخرفا حالما بحياة اخرى جديدة وبمرحلة حب وعشق جديد بعد ان غمر هذا العالم القاسي عشقا وحبا . حاور الموت وانتصر عليه ونفذ من براثنه والاعيبه الذي يمارسها على البشر العاديين . ربما كانت دموع تلك الفتاة الفلسطينية الجميلة محطة لشعاع ابيض ات من هناك عما قريب .
هل هذا هو البعد الاخر للموت ؟
هل وجد محمود درويش هذا البعد الاخر الذي بحث عنه الشعراء والفلاسفة منذ الازل ولم يجدوه ؟.
انا ارى هذا البعد الجمالي الشفاف متجسدا بكلمات وابيات قصائد الشاعر وبروعة ماكتب . منذ ان خطت انامله اول قصيدة حب وقصيدة عشق لوطن اصبح مع شعره وكانه قطعة جميلة من فردوس جميل لا نهائي الى قصيدته الاخيرة ورمية نرده الاخيرة . الطريق الى الخلود اجمل من الخلود ذاته والطريق الى الحب اجمل من الحب ذاته والطريق الى الموت بعد ان خلق هذا الشاعر الانساني الكبير البعد الاخر للموت اصبحت بيضاء نقية كنتف الثلج . مع درويش غدا الموت " موتا جميلا " اذا جاز لنا هنا هذا التعبير .
د. فؤاد خطيب
.......................................................................................................................................................................
منقول بتصرف عن احدي المواقع العربية

Inga kommentarer: